انطباق
قصة سبأ الواردة في (القرآن الكريم) على أهل فلسطين ليس خافيا على أحد من
المراقبين وخصوصا أهلُها الذين يكابدون كل ساعة من ساعات عيشهم فيها نتائج
الفرقة والتمزق. ذلك أن فلسطين كانت قبل نحو قرن من الزمان فقط جوهرة مصونة
في خزانة الدولة الاسلامية العثمانية، ولكنها اليوم ملقاة على قارعة
الطريق السياسي نهبا لكل طامع ومرتعا لكل متسكع. وكانت محط أنظار المسلمين
يشدون الرحال إلى مسجدها الأقصى، ويذكرون تاريخها المشرف مع المسلمين بدءً
من حادثة الإسراء والمعراج وقبلتهم الأولى، ومرورا بفتحها على يد الخليفة
الثاني عمر، وتحريرها من الصليبيين على يد القائد المظفر صلاح الدين،
ووصولا إلى المقولة التاريخية للسلطان عبد الحميد الثاني بأن فلسطين ملك
للأمة الإسلامية لا يسمح بالتفريط بشبر واحد منها، ولم يكن يسمح ليهودي
واحد أن يهاجر إليها. فماذا حصل لفلسطين وأهلها بانهيار دولة الخلافة؟
وماذا حصل لهم بعد زوالها؟ وكيف انطبقت عليهم قصة سبأ؟
ألا ترون
أن فلسطين قد وقعت تحت الاحتلال البريطاني المباشر بعد هزيمة الدولة
العثمانية في الحرب العالمية الأولى؟ ثم ألا ترون أن أول عمل قامت به
بريطانيا هو فصل فلسطين عن أمها الرؤوم وتخريب الخط الحديدي الحجازي المار
في أراضيها؟ ثم ألا ترون كيف حُذف الإسلام من معادلة الصراع في فلسطين،
وأبعدت فلسطين عن الأمة الإسلامية، وألقي بها في حضن وهمي مجهول يسمى الأمة
العربية؟ ثم ألا ترون أن كيف اقتصروا مقاومة المحتل البريطاني على نفر
يسير من أهل فلسطين وعزلوا الباقين ثم شتتوهم في بقاع الأرض لاجئين ونازحين
ومهاجرين ومبعدين وهاربين مطلوبين ومطاردين؟ ثم ألا ترون أن هجرة اليهود
قد تدفقت عليهم كسيل العرم حتى أصبحت فلسطين بكاملها مستوطنة إسرائيلية
كبيرة، وأصبح أهلها الأصليون أقليات في ديارهم، منبوذين ومحاصرين، بل
يريدون منهم أن يعترفوا بيهوديتها؟ ثم ألا ترون أن الله قد باعد بين
أسفارهم بعد أن ظلموا أنفسهم؟ فالمسافة التي كانت بين منزلين متجاورين عشرة
أمتار أو أقل، أصبحت عشرة كيلومترات أو أكثر! كما هو الحال في رأس كبسة
وأبو ديس والشيخ سعد والسواحرة وبرطعة وباقة وغيرها من مناطق فلسطين التي
شقها الجدار شقا، فما أنبتت حبا ولا قضبا، بل ملئت إسمنتا وسلكا شائكا
وحرسا شديدا وشهبا! ومنع جيران الأقصى من الوصول إليه، وأما الوصول إلى
المسجد الحرام والمسجد النبوي فدونه خرط القتاد، ونفائس الزاد، وقسرية
المعاد! ويوم "كبور" القوم تغلق مدنهم وقراهم كما تُغلق الحظائر!!
لا يوجد
على وجه الأرض قوم تشتتوا وتشرذموا وتحدث الناس عنهم ومزقوا كل ممزق أكثر
مما فعل بأهل فلسطين، ففي فترة زمنية قياسية، وبعد أن كان في ديارهم آمنين
قلعوا وشردوا، وجاء اليهود فأخذوا جل ما كان في أيديهم من الأراضي والبيوت
والمياه! وبعد أن كانوا أكثرية صاروا أقلية، وتآمر عليهم البعيد، وتجهم في
وجوههم القريب، وتاهت سفينتهم في بحار السياسة المتلاطمة، وازدادوا فرقة
وانقساما وتنافسا على متاع من الدنيا قليل لا يسمن ولا يغني من حصار أو
جوع، وأما الدين فليس له في برنامجهم نصيب، وأصحابه الذين يحملون لهم
الطيب، يرمون في القليب حتى المشيب.
يا أهل
فلسطين، أيها المسلمون: خذوا خبرة مما حصل لقوم سبأ، واتعظوا من الذي حصل
معكم، ولا تجعلوا الله أهون الناظرين إليكم، عودوا إلى دينكم بعد أن
ابتعدتم، وارجعوا إلى حضن أمتكم بعد أن أعرضتم، من قبل أن يأتي عليكم يوم
لا تنفعكم فيه أميركا ولا أوروبا، وليس للأمم المتحدة فيه أي وجود. ارجعوا
إلى الله واسعوا لتحكيم شرعه ولا تكونوا أول المعطلين له ولا آخرهم، ولا
تتولوا في الأرض مفسدين. أعلنوا حل الدولتين الضفاوية والغزية، وانهوا كل
علاقة لكم بهما، وليذهب الوفد المفاوض إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم. واعملوا
مع العاملين لإقامة دولة خلافة المسلمين الثانية الراشدة على منهاج
النبوة، فهي التي تنقذكم وأمتكم من الهلاك والضياع والتشرد والتمزق، وإني
والله لكم لناصح أمين، فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله
بصير بالعباد.